التلي

كتاب عن فن التلي كنموذج لتنمية المأثور الشعبي على أسس علمية إعداد الأستاذة الدكتورة نوال المسيري ، بالتعاون مع الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية.

 

نالت قضايا المرأة منذ بدايات القرن الماضي (العشرين) كثيرًا من الاهتمام،اجتماعيا، وثقافيا، واقتصاديا، وسياسيا. وصدرت كتب كثيرة، وكتبت مقالات وعقدت ندوات ومؤتمرات يصعب حصرها تناقش حقوقها وأدوارها وأوضاعها، باعتبارها شريكا في بناء الحياة والحفاظ عليها، وتنميتها.

وكان لي شرف المشاركة في أحد المؤتمرات، عُقد منذ سنوات قليلة، وكان محوره المرأة المبدعة أو إبداع المرأة ... وقد لوحظ أن معظم المشاركين في هذا المؤتمر قد ركزوا على الإبداع الفني الخاص للمرأة، في الشعر والرواية، والقصة القصيرة وغيرها من الفنون، وأن أحدًا لم يلتفت إلى إبداع المرأة في الفنون الأخرى التي تعد تجليات للثقافة الشعبية التي لم تنل حظها من الاحترام الواجب، ومن ثم لم تنل تجلياتها الحظ نفسه من التقدير والاهتمام الذي يتناسب مع وجودها وقيمتها ووظائفها.

وأذكر أنني قلت آنذاك إن المرأة في المجتمعات الشعبية تقوم بوظائف عدة، اجتماعية وثقافية واقتصادية، من خلال الأدوار التي تمارسها، وتشمل مختلف أوجه الحياة، سواء داخل المنزل أو خارجه، وأنها - في حقيقية الأمر- هي المبدعة لمعظم أشكال المأثورات الشعبية والحافظة لها أيضًا، وحياتها زاخرة بأشكال متنوعة من الإبداع سواء على صعيد السلوك أو على صعيد الإبداع الفني الذي عبرت من خلاله عن مشاعرها ورؤيتها لنفسها ولدورها في الحياة من خلال الحواديت التي كانت، وما تزال، تحكيها لأبنائها وأحفادها، وكذلك الأغاني التي صاحبت بها دورة الحياة، ومناسبات التحول المختلفة التي يمر بها الإنسان في حياته. وأن المرأة هي التي عبرت وحافظت، وما تزال، على قيم جمالية متعددة فيما تبدع من فنون كما يتبدى ذلك في الغزل، والنسيج، وأشغال الإبرة، والتطريز، والسجاد، والكليم، والخرز، والزي، والزينة ..الخ، سواء فعلت ذلك لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو غير ذلك.

وهي بما حافظت عليه من الحرف والصناعات التي برعت فيها، لم تكن في الحقيقة تفعل ذلك لتسلي نفسها أو تقطع به وقت فراغ لا تعرف ماذا تفعل به أو فيه، أو لأغراض فنية تسعى من ورائها لتحقيق قيم جمالية منفصلة عن الواقع الذي تعيشه، وتدرك أبعاده. بل لعلها رأت أنها من خلال هذا الذي تقوم به - إلى جانب أنشطة أخرى- تؤدي دورًا هاما من الناحية الاقتصادية في تحمل الأعباء المادية التي تحتاجها الحياة، بما يمكن أن تبيعه عندما تنسج سجادة أو كليمًا من ناحية، أو بما توفره من نفقات كان ينبغي أن تتحملها عائلتها في إعداد مفروشات أو إعداد ثياب بناتها للعرس (على سبيل المثال) محققة بذلك قيمة هامة تعبر عنها الفنون والحرف الشعبية، عامة هي الربط بين الجميل والنافع، والمعنوي والمادي. كما أنها بما حكته، وغنته، وتمثلت به، وما تزال، قامت - وتقوم- بدور أساسي في تكوين الطفل، رجل الغد؛ فهي بما حفظته ورددته ومارسته من أشكال المأثورات التي يمتزج فيها كل ما في الحياة من خير وشر، لم تكن تفعل ذلك لتسلية الصغار والترفيه عنهم فحسب، بل لتأصيل قيم معينة، وتوجيه غير مباشر للحث على التمسك بالأخلاق الحميدة، والعادات المرجوة، من خلال نماذج الشخصيات والمواقف والمضامين الأخلاقية والسلوكية، التي تحتاجها الحياة السوية.

وهي بهذا الذي قامت به، ساعدت، وما تزال، الأطفال، والصبية، والشباب الذين ينتمون إليها على إعطاء معنى لحياتهم، وعلى أن تنفتح أمام مخيلتهم آفاقًا غير محدودة، قد يعجزون بمفردهم، ودون معونتها، عن ارتيادها أو إدراكها. وتقدم لهم في الوقت ذاته حلولاً للمشاكل والصعوبات التي قد يواجهونها في حياتهم، باعتبارها حتمًا لا مفر منه، وأنها تشكل جزءًا أساسيًا في وجودهم ذاته. وربما سيلاحظ المتأمل لدور المرأة في هذا المجال أنه يؤكد بشكل فني على مواجهة تلك المشاكل والصعوبات والعوائق غير المتوقعة، والتصدي لها بدلاً من الهرب منها.

إننا عندما نمعن النظر في هذه المأثورات الشعبية، سوف نرى أن المرأة الشعبية قد عبرت بها ومن خلالها - وما تزال- عن المعنى الحقيقي لحياتها، وأدركت أن تحقيق هذا المعنى يستوجب القدرة على تجاوز الحدود الضيقة لوجود يتمحور حول الأنا أو الذات الخاصة، مؤمنة بقدرتها وقدرة من حولها ممن تحكي أو تغني أو تصنع لهم - ربما في مرحلة متقدمة من حياتهم- على إضفاء شيء من المعنى على الحياة التي يعيشونها أو نعيشها نحن جميعًا. وأنها اكتشفت، ربما بتراكم الخبرات والتجارب أن هذا الشعور ضروري للفرد، إذا أراد أن يكون راضيًا عن نفسه محققا لذاته، وبالتأكيد فإن ما يصدق على الفرد، يصدق على الجماعة أيضًا.

وقد أكدت حينذاك -وما زلت أؤكد- أن هناك ضرورة علمية فنية ثقافية لجمع المأثورات التي أبدعتها المرأة الشعبية وحافظت عليها لتكون أساسًا لمعرفة أفضل بها وأدوارها ووظائفها، على كل المستويات، بالإضافة إلى التعرف على جوانب الإبداع الفني عندها، والقيم الجمالية والأخلاقية والسلوكية التي تحملها، إلى جانب غير ذلك من أهداف يمكن الاستفادة من هذه المأثورات في تحقيقها، ومنها:

1- الحفاظ على هذا التراث الذي يمثل بعدًا اجتماعيا ثقافيًا هامًا ومؤثرًا، وإتاحته للباحثين الذين يرغبون في دراسة موضوعات خاصة بالمرأة ورؤيتها لذاتها ولغيرها وللعلاقات المتعددة التي تمارسها في المجتمع، وجوانب السلب والإيجاب فيما يرتبط بأدوارها في الحياة.

2- إعداد قاعدة بيانات لهذا التراث وفقًا للأصول العلمية المتبعة وإتاحته للمبدعين الذين يمكن أن يستلهموه في أعمال فنية أو صناعات أو حرف، وما إلى ذلك مما يخدم قضية التنمية بالنسبة للمرأة والمجتمع عامة، وذلك بجمع أشكال الفنون، والحرف، والصناعات الشعبية التي تميزت بها المرأة، والتي يمكن أن تسهم من خلال دراستها وتحليل عناصرها في تقديم نماذج تساعد على تنمية قدراتها الخلاقة، وهو ما سوف يؤدي إلى الحفاظ على هذه الحرف والصناعات وتطويرها وتنميتها؛ ومن ثم يمكن أن تحقق عائدًا ماديًا لصاحباتها، بالإضافة إلى المكاسب الثقافية الأخرى التي لا تقل أهمية عن المكاسب المادية.

وكان من ثمار هذه الدعوة أن أنشأ المجلس القومي للمرأة آنذاك لجنة خاصة باسم "المرأة حافظة التراث" وأسندت رئاستها إلى الأستاذة الدكتورة فرخندة حسن الأمين العام للمجلس آنذاك، وضمت في عضويتها الأساتذة الدكتور أسعد نديم وصفوت كمال (رحمهما الله) والدكتورة نوال المسيري وكاتب هذه السطور باعتبارهم متخصصين في المأثورات الشعبية. واقترحت -أنا- آنذاك أن نبدأ بتوثيق فن نسائي شعبي -هو فن التلِّي- كان على وشك الاندثار إذ لم يكن هناك اهتمام به إلاّ من الفنان سعد زغلول - ابن أسيوط- الذي نذر نفسه للحفاظ عليه بجهد فردي يحمد له، ويُشكر عليه. ووافقت اللجنة على اختيار هذا الفن لجمع عناصره ومكوناته ودراسة إمكانات تنميته من خلال مُبدعاته ومن يمارسنه آنذاك على قلَّتهم، وأسندت هذه المهمة إلى الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية التي تضم مجموعة متميزة من المتخصصين والمهمومين بهذه المأثورات وضرورة جمعها والحفاظ عليها وتوثيقها ودراستها والعمل على تنميتها. وتم إقناع الأستاذة الدكتورة نوال المسيري عضو اللجنة بأن تتولى قيادة الفريق البحثي الذي سينهض بهذه المهمة جمعا وتوثيقا ودراسة.

وتم الاتصال بمحافظ أسيوط حينئذ السيد اللواء أحمد همام الذي تفضل بتيسير كل السبل من أجل نجاح المهمة، من توفير لأماكن الإقامة والإعاشة والمواصلات ..الخ. وبدأت عملية الجمع والتوثيق وفقا للأصول العملية المرعية عن طريق اللقاءات المباشرة مع كل من له صلة بهذا الفن، وجمع الدراسات التي تمت عنه، وتوثيق التجارب الفردية الخاصة بالتدريب عليه، أو الحفاظ على وجوده واستمراره، مما سجلته الأستاذة الدكتورة نوال في أسيوط وسوهاج وقدمته في دراسة نشرت باللغة الانجليزية منذ خمس سنوات. وقد نفدت هذه الطبعة الانجليزية مما دفعنا إلى التفكير في ترجمتها إلى اللغة العربية أملاً في أن يتم الاستفادة منها على نطاق أوسع. ضمت الدراسة في نسختها الانجليزية أربعة فصول تناولت الجهود السابقة في مجال العناية بهذا الفن ودراسة لجزيرة شندويل ومجتمعها بهدف تقديم بانوراما واقعية له اعتمادًا على معايشة القرية وأهلها ومحيطها الطبيعي والاجتماعي وكتمهيد لتقديم "التلِّي" الذي تم التركيز عليه إبداعًا وأداءً، ورصدًا لعناصره، وفناناته اللائي حافظن على استمراره، وعلى الأجيال الجديدة منهن، وُألحقت بالدراسة عدة ملاحق تحصر عناصر هذا الفن، ونماذج لما يمكن أن تكون عليه في استخدامات معاصرة تناسب الأذواق والحاجات المتعددة المتجددة. ورأت المؤلفة أن تضيف إلى هذه الدراسة فصلاً لم يكن موجودًا في الطبعة الانجليزية معتمدة على ما زودها به المرحوم د.إبراهيم حسين لتوثيق مقتنيات متحف مركز الفنون الشعبية التي تم الاعتماد عليها في تقديم نماذج مأثورة لهذا الفن.

تحية إلى أسعد نديم، وصفوت كمال، وإبراهيم حسين (رحمهم الله) وتحية إلى تلك المجموعة الصغيرة التي تقبض على مأثورات الوطن، وتحاول حَبْوًا، وسيرًا، وجريًا، وطيرانا، أن تستنقذ هذه المأثورات، وأن تقدم نماذج علمية للحفاظ عليها وصونها وتنميتها اقتصاديا، تحقيقا للهوية وتأكيدًا لها واحتراما لمفرداتها ومكوناتها ولتكون خيرًا لأصحابها ومبدعيها .. أي خيرًا للوطن ..

وتعيش بلدي وأهل بلدي..

دا اللي يِحْبيِ .. يقطعها جبال .. ولسوف نحقق ذلك إن شاء الله.